اليوم أستيقظُ شاعرًا بأن مهمَّتي اتَّضحت لي وضوحًا تامًّا. مثل جليد الشِّتاء الصُّلب إذ يذوب معلنًا حلول الرَّبيع، أصبحَت علاقتي بجوزپِّي لوپو جليَّةً، وقد أشعرَني الطَّابع «العلاجي» لعلاقتنا الذي تكشَّف لتوِّه بالحرِّيَّة. الآن وقد فهمتُ الوضع صارَت لي غاية. يُمكنني أن أساعد جيو وأسرته، فيحكي هو قصص حياته وأسجِّلها أنا بأمانة.
ليس عبئًا عليَّ تحدِّي فرز قصصه وتحقيقها بغرض أن أعرف أيُّها حقيقي وأيُّها خيالي، ولي حرِّيَّة تسجيل الحكايات كما يحكيها قدر استطاعتي.
أهي حكايات خرافيَّة أم تجاربه الفعليَّة؟ لم يَعُد ذلك مهمًّا. الآن أستمتعُ بالتَّحدِّي الذي أرساه الپروفسور هانز وأوضحَته أكثر الحرباء جوليا لوپو. لها هي أن تُميِّز هذه الحكايات من تلك، وأقرُّ لنفسي باستمتاعي بهذا، لأنه يعني أن أراها أكثر.
على أن الملاحظة التي تركَها لي جيو مع هانز تُثير فضولي. كيف أصنِّفُ هذه الوثيقة؟ هكذا أطلبُ من جوليا العون تاركًا لها ملاحظةً، وفي وقتٍ لاحقٍ من اليوم نفسه أجدُ ردًّا مختصرًا منها مدسوسًا في فرجة باب خزانتي:
عزيزي بقشيش،
لستُ متأكِّدةً من معنى قصَّة أبي عن ذلك الحُلم الغريب. إنها قصَّة غريبة، أسلوب جديد. لو أني مكانك لتذكَّرت تمرين الذِّكريات الثَّلاث فقط، أحجار الأساس. أتَذكُرها؟ ركِّز عليها وأنا واثقة بأن شيئًا سيقود إلى آخَر، وفي النِّهاية سيبدو كلُّ شيءٍ معقولًا لك، ولنا أيضًا.
هذا أملنا.
ج.
مرارًا وتكرارًا أقرأ أحجار الأساس الثَّلاثة، وأعجزُ عن حلِّ شفرتها، ويبقى لُغزها مستغلقًا. لكن شيئًا واحدًا يتَّضح: كلَّما تزايدَ تعبي من المشروع توغَّلت جوليا في قلبي أكثر. للأمر عليَّ تأثير مثل الشَّد والجذب، وأقرِّرُ أن أمضي ببساطةٍ مع التيَّار.
أحجار أساس جوزپِّي لوپو:
أبكر انطباعاتي عن:
1. الفن: «ارسم لي خروفًا».
2. الألوان: «مشكال زحل».
3. الموسيقى: «SOB».
قبل أن أذهب للقاء جيو، أبحثُ في ملاحظاتي وأجهِّز هذه الثَّلاث، مخطِّطًا لعدم فعل شيءٍ إلَّا التَّنقيب في أعماق كلِّ واحدة. قصصه في الآونة الأخيرة كانت عن أمِّه والملجأ في الإسكندريَّة، وأسى الفراق الشَّنيع الذي يَشعُر به كلكمةٍ مميتة في أحشائه متى رحلَت بعد زياراتها المنتظمة.
عندما أقابله سألقي عليه سؤالًا واحدًا: «ما ماهية أحجار الأساس المزعومة تلك؟».
حجر الأساس الأول: ارسم لي خروفًا
في دار أيتام سان ڤنسان دي پول بالإسكندريَّة، يقضي جيو أيامه في التَّساؤل عمَّا سيَحدُث بعدُ. لقد استقرَّ في حياته، ولو أنه أبعد ما يكون عن الرَّاحة، ومع ذلك ينتهي ببُطءٍ إلى كون هذا سمت حياته الاعتيادي مهما بدا له حقيقيًّا قبيحًا، ويتبيَّن أن الخلاص يَكمُن في القبول. في يومٍ من الأيام سمعَ كلمةً مهمَّةً في صفِّ الدِّراسات الإسلاميَّة، ويتعلَّم «التَّسليم».
في عقله يشرع في الصَّلاة، فيُردِّد ما يعرفه. مرتبكًا من جرَّاء تعرُّضه لدياناتٍ مختلفة في الملجأ، يُردِّد جُملةً سمعَ الرَّاهبات يُتمتمن بها همسًا باستمرار: «آڤي ماريا»، ومن ثمَّ تُصبِح ترنيمته.
يخشى جيو يوم مناداة الأسماء لإعلان التَّقرير الدِّراسي في نهاية كلِّ شهر. وقتها يرفع معلِّمهم عقيرته بنتائج الشَّهر المنصرم، بدايةً بأعلى الدَّرجات وهكذا حتى ينتهي بأسوأها. في كلِّ فصلٍ يستقرُّ مكتب المعلِّم فوق منصَّةٍ تعلو تُخت التَّلامذة كلَّها، فيجلس المعلِّم إلى مكتبه رامقًا إياهم من أعلى، ويبدأ في نداء أسمائهم.
يعلم جيو أنه سينتظر سماع اسمه طويلًا، فعادةً ما يكون الأخير أو قبل الأخير. مع كلِّ اسمٍ يُنادى ينقبِض صدره أكثر فأكثر، ويتملَّكه الغمُّ. درجاته بالغة الرَّداءة تُعيد توكيد حال حياته البائسة.
بترتيب مناداتهم يصطفُّ الأولاد عند جُدران الفصل، وقد أصبحَ مألوفًا من أبرز التَّلامذة، أصحاب الدَّرجات العشر الأعلى، أن يَنظُروا بازدراءٍ إلى أصحاب الدَّرجات المنخفضة ويضحكوا ويسخروا منهم. بالنِّسبة إلى جيو، فلن يُحرِز درجاتٍ سيِّئةً ويتعرَّض للتَّهكُّم فحسب، بل أيضًا لن يجد والدًا ليُريه النَّتيجة. موقفه خاسر من الطَّرفيْن.
في أحد أيام إعلان التَّقرير الشَّهري المخيفة تلك، وصلَت معلِّمة جديدة، راهبة شابَّة نحيلة كقلم الرَّصاص، طويلة القامة ولها وجه مشرَّب بحُمرةٍ شاحبة ويدان باللَّون نفسه. يلحظ جيو ضفيرةً صغيرةً من الشَّعر الأشقر تلوح من غطاء رأسها، وتشحن كلماتها الأولى الصِّبية بطاقةٍ كهربيَّة.
تُعلِن الرَّاهبة: «اليوم لن نقرأ لائحة التَّقارير الدِّراسيَّة. لا أيها السَّادة، لا سباق للتَّقارير الدِّراسية، لأن لا حاجة إليها، ولأنها لا تهمُّ. ستتناوَلون جميعًا تقاريركم بعد الدَّرس وتأخذونها إلى أهلكم ليُوقِّعوها، وهذا كلُّ شيء».
وبهذا التَّصريح البسيط تقلب نظامهم التَّسلُّطي الرَّتيب رأسًا على عقب.
لا يُصدِّق جيو أنه أُعفيَ من حرج التَّقرير الدِّراسي الشَّهري في لحظةٍ واحدة مفرِحة، ويرى أصحاب أعلى الدَّرجات يَنظُرون إلى بعضهم بعضًا وإليه، وقد كدَّرهم ألَّا يظفروا بيومهم المجيد البهيج.
تُخبِرهم الرَّاهبة: «اسمي السِّستر كاتارينا، وجئتُ من مدينة كوپنهاجن العظيمة في الدنمارك»، وتلتفت إلى السبُّورة الكبيرة وترسم عليها شكلًا مستطيلًا مائلًا قائلةً: «هذه أورپا، وهنا...»، وتُضيف شكل «U» مقلوبًا عند قمَّة أورپا متابعةً: «... وهذه هي الدُّول الاسكندناڤيَّة. هل سمعتم بها؟»، ثم تضع بُقعةً بالطَّباشير حيث يلتقي الشَّكلان، وتشرح: «هذه هي الدنمارك، هنا. عاصمتنا اسمها كوپنهاجن. أتعرفون معني كوپنهاجن؟»، وبالفرنسيَّة تُجيب عن السُّؤال: «أحبُّ أن أتصوَّر أن معناها «مدينة الرِّفقة»».
تبدو فاتنةً لجيو فكرة أن في مكانٍ ما مدينةً يحمل اسمها معانيَ الرِّفقة والصَّداقة. للمرَّة الأولى في حياته يُزاح مقدار شقٍّ من السِّتار المسدَل على واقعه، ويَشعُر بشيءٍ جديد، بأملٍ في عالمٍ أفضل. يُحمِّسه أيَّما حماسة أن في منطقةٍ ما في هذا العالم، في عالمه، مكانًا للصُّحبة والمودَّة.
تُنزِل السِّستر كاتارينا المقعد من فوق منصَّة المعلِّم المرتفعة، وفي حركةٍ صدمَت الصِّبية -وهي ثاني صدمة هذا الصَّباح- تُدير المقعد وتجلس عليه بالعكس، بحيث تسند صدرها إلى ظَهره، ثم ترفع رداءها لكي تضع ساقيها على جانبَي المقعد. يضحك الصِّبية ضحكاتٍ مكتومةً من طريقة جلوسها، ولمرأى حذاءها وجوربها الأصفر الزَّاهي الطَّويل الذي انكشفَ لهم بوضوح.
يلحظ جيو ثقبًا صغيرًا في فردة جوربها اليُسرى، فيقول في نفسه: أوه، إنها مثلي تمامًا، غير كاملة.
تلتقط السِّستر كاتارينا كتابًا صغيرًا غلافه من الأزرق الدَّاكن من ردائها المصبوغ باللَّون عينه، فتبدو الحركة لجيو كحيلةٍ سحريَّة، وبيُسراها ترفع الكتاب عاليًا فوق رأسها كأنه بيان رسمي، ليُقَهقِه الصِّبية لمرأى المنظر الغريب؛ راهبة بزيِّها الكنسي تحمل كتابًا صغيرًا فوق رأسها مبتسمةً لهم.
- ««الأمير الصَّغير». هذا أيها الصِّبية كتاب في غاية الرَّوعة ألَّفه رجل في غاية الرَّوعة، أنطوان دو سانت إكزوپري».
ثم تخفض الرَّاهبة الكتاب وتفتحه بحرص، وتُبلِّل إصبعها لتفتح الصَّفحة الأولى قائلةً: «لتتمرَّنوا على الفرنسيَّة، سأقرأ لكم بضع صفحاتٍ كلَّ يوم. هل يُناسِبكم هذا أيها الصِّبية؟».
ويبتسم جيو... هذه أول مرَّةٍ يَطلُب أحد المعلِّمين رأيهم. شعور شديد الغرابة وجديد تمامًا، كالهواء الطَّلق، وليس أيَّ هواءٍ طلق. كأنه هواء في منتهى النَّظافة، هواء صافٍ منعش مشبَّع بالأكسجين.
تُواصِل المعلِّمة: «اتَّفقنا أيها الصِّبية؟ حسن، أولًا سنقرأ إهداء الكتاب الموجَّه إلى صديقٍ للمؤلِّف»، وتفتح الكتاب وتمدُّ ذراعها على طولها وتقرأ، قراءتها مسرحيَّة الطَّابع كأنها تُمثِّل، وهو ما يخلب لُبَّ جيو الذي لم يرَ أو يختبر شيئًا كهذا على الإطلاق. أهي كروحٍ مقدَّسة؟
- «إلى ليون ڤِرت،
أطلبُ من الأطفال أن يُسامِحوني على إهداء هذا الكتاب إلى شخصٍ بالغ.
إن عندي عُذرًا وجيهًا: هذا الشَّخص البالغ هو أعزُّ أصدقائي في العالم كلِّه.
وعندي عُذر آخَر: هذا الشَّخص البالغ يفهم كلَّ شيء، حتى كُتب الأطفال. كما أن عندي عُذرًا ثالثًا: إنه مقيم في فرنسا، حيث يَشعُر بالجوع والبرد.
إنه في حاجةٍ إلى مَن يُواسيه.
وإن لم تكفِ هذه الأعذار كلُّها، فأحبُّ أن أهدي هذا الكتاب إلى الطِّفل الذي كانَه هذا الشَّخص البالغ.
الكبار جميعًا كانوا أطفالًا من قبل (ولو أن قلَّةً منهم تَذكُر ذلك).
لهذا أصحِّحُ إهدائي:
إلى ليون ڤِرت،
عندما كان صبيًّا صغيرًا».
يجلس جيو في مقعده مفتونًا بسحر الكلمات. شخص بالغ يُكرِّم ولدًا صغيرًا. جديدٌ هذا.
يتذكَّر مرضه السرِّي: دائمًا يُوجِعه حلقه من الكلمات المتلهِّفة إلى الخروج، من الاحتياج إلى التَّعبير عن نفسه والإفصاح عمَّا في عقله من ارتباك، لدرجة أنه يعجز عن النَّوم أحيانًا من شدَّة الألم في عُنقه. أمَّا الآن، وفي لمح البصر إذ سمعَ تلك الكلمات، فيَشعُر بالرَّاحة. الألم في حلقي زالَ.
يبدأ الكتاب برسومٍ بيد المؤلِّف في طفولته، يُريها للكبار فلا يفهمونها. حينما يُريهم فيلًا ابتلعَته أفعى بوا عاصرة، يرون قبَّعةً. يُصاب المؤلِّف بخيبة الأمل في النِّهاية، ويشرح أنه يئسَ من الفنِّ وكبرَ ليعمل طيَّارًا.
وفي أحد الأيام تَسقُط طائرته في الصَّحراء الكُبرى، وبعد أيامٍ من البحث عن نجدةٍ يرى طيفًا، صبيًّا قصير القامة ذهبيَّ الشَّعر، أميرًا يظهر له ويَطلُب منه أن يرسم له خروفًا. وبما أنه بالغ الآن ولم يَعُد طفلًا، يرسم المؤلِّف خروفًا تلو الخروف، غير أن الأمير الصَّغير لا يرضى.
وأخيرًا، وقد ألمَّ به الإحباط، يرسم هذا قائلًا للأمير الصَّغير: «هذا صندوقه. الخروف الذي تُريده في الدَّاخل!».
فيردُّ الأمير الصَّغير مثيرًا دهشة المؤلِّف: «هكذا بالضَّبط أريده».
تَصمُت السِّستر كاتارينا بعد قراءة هذه الفقرة، وبعنايةٍ تدسُّ الكتاب داخل ردائها، حيث يختفي كأنما بفعل السِّحر من جديد، ثم ترفع ناظريْها إلى الصِّبية، وبينما تتكلَّم تجوس ببصرها في وجوههم واحدًا تلو الآخَر، مثبِّتةً نظراتها على كلٍّ منهم للحظةٍ وجيزة، كأنها تنشد منحهم مُهلةً لاستيعاب كلامها قبل انتقالها إلى الصَّبي التَّالي.
يلحظ جيو أنها تبدو عاطفيَّةً وليست صارمةً كسائر الرَّاهبات.
- «كما ترون أيها السَّادة الأعزَّاء، الأشياء المهمَّة ليست واضحةً دومًا. استخدِموا خيالكم».
وأخيرًا تصل المعلِّمة إلى جيو، وتُخاطِبه قائلةً: «قدرنا ليس محتومًا، ليس بالكامل، فنحن مَن نُضيف الألوان إلى المخطَّط الأسود الذي هو الحياة التي مُنِحناها. إننا لا نُعطى إلَّا رسمًا مبدئيًّا، لكن مهمَّتنا في الحياة أن نُضيف ألواننا الفريدة الخاصَّة. أينما ذهبنا ومهما فعلنا، نُضيف الألوان».
ثم تُربِّت ببُطءٍ على الكتاب المخبَّأ داخل ردائها، وتُردِف: «إليكم الشَّيء المذهل. أتعلمون أين راودَت أنطوان دو سانت إكزوپري رؤيا هذه القصَّة؟ أين سقطَت طائرته ورأى الأمير الصَّغير؟».
فيهزُّ الأطفال رأسهم نفيًا.
- «كان ذلك هنا في مصر، في بلدكم، في الصَّحراء بين الإسكندريَّة والقاهرة. سقطَت طائرته وجابَ الصَّحراء على قدميه طيلة أيامٍ إلى أن أنقَذوه. خلال تلك الأيام راودَته رؤيا الأمير الصَّغير، ثم دوَّن القصَّة في الكتاب قبل أن ينسى».
وتتطلَّع المعلِّمة إلى الصِّبية، وتُخبِرهم: «كان ذلك لونه».
خلال الأيام والأسابيع التَّالية تستمرُّ السِّستر كاتارينا في قراءة فصول «الأمير الصَّغير»، وقد أصبحَ هذا صفُّ الصِّبية المفضَّل.
يتذكَّر جيو حكيها قصَّة وردة الأمير الصَّغير الحمراء، التي خالَت حين تفتَّحت بتلاتها للمرَّة الأولى عند الشُّروق أنها قديمة قِدم الشَّمس، وفيما تقرأ السِّستر كاتارينا، يرى بعين الخيال كم هي جميلة تلك الوردة، وكم هي واحدة من نوعها عند الأمير الصَّغير من بين ملايين الورود الأخرى المشابهة، ويتمنَّى أن تكون له بدوره وردة يعتني بها.
وهكذا يتأثَّر جيو تأثُّرًا بليغًا دائمًا بقصَّة «الأمير الصَّغير» والدَّعوة إلى الخيال، وكلُّ هذا في جُملةٍ واحدة بمثابة حجر أساس: «ارسم لي خروفًا».
في أحد الأيام تُباغِتهم السِّستر كاتارينا بخبرٍ صادم.
- «أيها الصِّبية، أيها الرِّجال الصِّغار، أصدقائي الصِّغار الأعزَّاء جدًّا، إنني في غاية الأسف، ولكن عليَّ أن أرجع إلى كوپنهاجن».
وتدبُّ الفوضى في الفصل الذي تعوَّد وجودها المريح وأُلفة جوِّ دروسها.
يتخيَّلها جيو تأخذه معها إلى كوپنهاجن، إلى مدينة الصُّحبة والصَّداقة الخياليَّة تلك، حيث يقضي حياته في الاستماع لحكاياتها.
تقول السِّستر كاتارينا مناشدةً: «أيها الصِّبية، أيها الصِّبية، لا، مهلًا»، وفي اللَّحظة نفسها تفتح رئيسة الرَّاهبات الباب ناشدةً معرفة سبب هذا الهرج والمرج، ولدى مرآها تَدخُل يَصمُت الصِّبية ويستكينون من جديد.
بحزمٍ تسأل رئيسة الرَّاهبات: «السِّستر كاتارينا؟ ألم تكوني على وشك الرَّحيل؟».
إلَّا أن السِّستر كاتارينا تتظاهَر بعدم الانتباه، وتُواصِل مخاطبة الصِّبية: «دعوني أحكي لكم قصَّة وداع، وأريدكم أن تعدوني بأن تتذكَّروها دومًا، اتَّفقنا؟ سأحكي لكم القصَّة ثم أرحلُ».
فيُومئ الصِّبية برؤوسهم، وتزفر رئيسة الرَّاهبات بضيقٍ وتعقد ذراعيها على صدرها.
يلحظ جيو التَّوتُّر، ويسمع الأولاد المجاورين له يقولون همسًا: «لا بُدَّ أن السَّبب أنها ألغَت يوم التَّقرير الدِّراسي»، فيردُّ صبيٌّ آخَر: «لا أيها الحمقى. الجورب الأصفر هو السَّبب».
- «يُحكى أن في أرضٍ بعيدة عاشَ زعيم قبيلةٍ متحجِّر القلب اسمه ليف آندور، وكان رجلًا فظيعًا، يملك كلَّ ما في إقطاعيَّته من أراضٍ. هل تعرفون معنى الإقطاعيَّة؟». ثم تُلقي السِّستر كاتارينا نظرةً جانبيَّةً نحو رئيسة الرَّاهبات، فتراها تدقُّ على الأرض بمقدِّمة قدمها مستاءةً.
- «معناها أنه كان يملك كلَّ ما في مساحةٍ واسعة جدًّا من الأرض، ويضع القواعد كلَّها لمَن يعيشون هناك. أيُّ شيءٍ يزرعونه ويُنمُّونه، طعامهم كلُّه، وأيُّ شيءٍ يُريد أحد أن يفعله، كان يتطلَّب موافقة ليف آندور أولًا، وحتى بناء المنازل. تخيَّلوا أنه فعلَ ذلك مع قبيلته. لقد كان زعيمًا مرهِبًا شنيعًا. وفي يومٍ من الأيام أرادَ أخو زوجته أن يبني لنفسه منزلًا، مجرَّد منزلٍ صغير يُؤويه هو وزوجته وأسرته، فطلبَ الإذن من ليف آندور، لكن الحاكم رفضَ، وكرَّر طلبه مرَّةً أخرى وأخرى ليُجاب بالرَّفض. وهكذا سألَت زوجة ليف آندور زوجها: لِمَ تَرفُض؟ فأجابَها الحاكم: إذا بنى أيُّ أحدٍ منزلًا فلن أعود أملك أرضًا. فقالت زوجته: اسمع يا عزيزي، إن لديَّ حلًّا. اسمح لأيِّ رجلٍ بالغ ببناء منزل، شريطة أن يستخدم ألف قالبٍ فقط من القرميد وليس أكثر من ذلك. بهذه الطَّريقة يُمكنك التَّحكُّم في ما يَحدُث. كانت الزَّوجة تعلم ما يخشاه ليف آندور حقًّا. بهذه الطَّريقة سيكون لك دومًا المنزل الأكبر، قصرك. وافقَ ليف أندور وقضى باستطاعة أيِّ رجلٍ بالغ بناء منزلٍ لا يتجاوَز عدد قوالب القرميد فيه الألف، وما دامَ ملتزمًا عدد الألف قالب أو أقل فلن يمسَّه أذى. على الرغم من قسوة ذلك الحاكم ليف آندور البالغة، فقد اعتادَ أن يصون كلمته دومًا متى أصدرَ قانونًا، وكانت كلمته نهائيَّةً لا رجعة فيها. سعدَت قبيلته بهذا الحُكم وشرعَ رجالها في بناء منازل صغيرة لأسرهم، وبعد أسبوعٍ نظرَ الحاكم من نافذة غُرفة النَّوم في قصره، ليرى أن منزلًا هائل المساحة قد شُيِّدَ، وكان المنزل أعلى وأكبر من قصره، ويحجب عنه منظر إقطاعيَّته، فصرخَ في زوجته: انظُري ما فعلَه أخوكِ. لقد حجبَ عني المشهد وبنى منزلًا ضخمًا. لم يلتزم القواعد وسأعاقبه بالموت. لا، بل سأعذِّبه أولًا. لا، بل سأجعله يأكل قوالب القرميد الإضافيَّة التي استخدمَها. لكن الزَّوجة نظرَت من النَّافذة، ثم ابتسمَت قائلةً: لا، إنه لم يستخدم أكثر مما سمحت له به. انظُر، لقد أضافَ فقط الكثير من النَّوافذ والأبواب في كلِّ مكان. لهذا منزله أكبر من قصرك، لكنك وضعت القواعد وهو لم يخرقها».
وتجمع السِّستر كاتارينا أغراضها وتُسوِّي رداءها قائلةً لهم: «تذكَّروا إذن أيها الصِّبية أن تستخدموا خيالكم دومًا. كما ترون، لقد قبلَ بقوالب القرميد الألف لكنه أسعدَ نفسه، أضافَ الكثير من النَّوافذ والأبواب، أضافَ لونه. تذكَّروا هذا. في خيالنا، وفي فنِّنا وحكينا، يَكمُن سحر حرِّيَّتنا، فأضيفوا الألوان على الدَّوام!».
وبهذه القصَّة غرسَت السِّستر كاتارينا حجر الأساس الأول في روح جيو، وأصبحَت شخصه المفضَّل، بصيص أمله. رغم أنها كانت معلِّمتهم لشهورٍ معدودة، فقد أثَّرت السِّستر كاتارينا على حياة جيو من نواحٍ ستبقى معه حتى نهاية عُمره، لأنها غذَّت خياله النَّشط داخل عقله.
كان جيو يختلق الخيالات في ذهنه فرارًا من واقع وجوده القاسي، غير أنها أرَته أن هنالك عالمًا آخَر بأكمله لا يقلُّ حقيقةً، عالمًا في الخيال والحكايات.
الترجمة العربيَّة: هشام فهمي


